كلمات نزار القباني

قصيدة حب بلا حدود

-1-

يا سيِّدتي:

كنتِ أهم امرأةٍ في تاريخي

قبل رحيل العامْ.

أنتِ الآنَ.. أهمُّ امرأةٍ

بعد ولادة هذا العامْ..

أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيَّامْ.

أنتِ امرأةٌ..

صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ..

ومن ذهب الأحلامْ..

أنتِ امرأةٌ.. كانت تسكن جسدي

قبل ملايين الأعوامْ..

-2-

يا سيِّدتي:

يالمغزولة من قطنٍ وغمامْ.

يا أمطاراً من ياقوتٍ..

يا أنهاراً من نهوندٍ..

يا غاباتِ رخام..

يا من تسبح كالأسماكِ بماءِ القلبِ..

وتسكنُ في العينينِ كسربِ حمامْ.

لن يتغيرَ شيءٌ في عاطفتي..

في إحساسي..

في وجداني.. في إيماني..

فأنا سوف أَظَلُّ على دين الإسلامْ..

-3-

يا سيِّدتي:

لا تَهتّمي في إيقاع الوقتِ وأسماء السنواتْ.

أنتِ امرأةٌ تبقى امرأةً.. في كلَِ الأوقاتْ.

سوف أحِبُّكِ..

عند دخول القرن الواحد والعشرينَ..

وعند دخول القرن الخامس والعشرينَ..

وعند دخول القرن التاسع والعشرينَ..

و سوفَ أحبُّكِ..

حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ..

وتحترقُ الغاباتْ..

-4-

يا سيِّدتي:

أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ..

ووردةُ كلِّ الحرياتْ.

يكفي أن أتهجى إسمَكِ..

حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ..

وفرعون الكلماتْ..

يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ..

حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ..

وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..

-5-

يا سيِّدتي

لا تَضطربي مثلَ الطائرِ في زَمَن الأعيادْ.

لَن يتغيرَ شيءٌ منّي.

لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريانْ.

لن يتوقف نَبضُ القلبِ عن الخفقانْ.

لن يتوقف حَجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ.

حين يكون الحبُ كبيراً..

والمحبوبة قمراً..

لن يتحول هذا الحُبُّ

لحزمَة قَشٍّ تأكلها النيرانْ…

-6-

يا سيِّدتي:

ليس هنالكَ شيءٌ يملأ عَيني

لا الأضواءُ..

ولا الزيناتُ..

ولا أجراس العيد..

ولا شَجَرُ الميلادْ.

لا يعني لي الشارعُ شيئاً.

لا تعني لي الحانةُ شيئاً.

لا يعنيني أي كلامٍ

يكتبُ فوق بطاقاتِ الأعيادْ.

-7-

يا سيِّدتي:

لا أتذكَّرُ إلا صوتُكِ

حين تدقُّ نواقيس الآحادْ.

لا أتذكرُ إلا عطرُكِ

حين أنام على ورق الأعشابْ.

لا أتذكر إلا وجهُكِ..

حين يهرهر فوق ثيابي الثلجُ..

وأسمعُ طَقْطَقَةَ الأحطابْ..

-8-

ما يُفرِحُني يا سيِّدتي

أن أتكوَّمَ كالعصفور الخائفِ

بين بساتينِ الأهدابْ…

-9-

ما يَبهرني يا سيِّدتي

أن تهديني قلماً من أقلام الحبرِ..

أعانقُهُ..

وأنام سعيداً كالأولادْ…

-10-

يا سيِّدتي:

ما أسعدني في منفاي

أقطِّرُ ماء الشعرِ..

وأشرب من خمر الرهبانْ

ما أقواني..

حين أكونُ صديقاً

للحريةِ.. والإنسانْ…

-11-

يا سيِّدتي:

كم أتمنى لو أحببتُكِ في عصر التَنْويرِ..

وفي عصر التصويرِ..

وفي عصرِ الرُوَّادْ

كم أتمنى لو قابلتُكِ يوماً

في فلورنسَا.

أو قرطبةٍ.

أو في الكوفَةِ

أو في حَلَبٍ.

أو في بيتٍ من حاراتِ الشامْ…

-12-

يا سيِّدتي:

كم أتمنى لو سافرنا

نحو بلادٍ يحكمها الغيتارْ

حيث الحبُّ بلا أسوارْ

والكلمات بلا أسوارْ

والأحلامُ بلا أسوارْ

-13-

يا سيِّدتي:

لا تَنشَغِلي بالمستقبلِ، يا سيدتي

سوف يظلُّ حنيني أقوى مما كانَ..

وأعنفَ مما كانْ..

أنتِ امرأةٌ لا تتكرَّرُ.. في تاريخ الوَردِ..

وفي تاريخِ الشعْرِ..

وفي ذاكرةَ الزنبق والريحانْ…

-14-

يا سيِّدةَ العالَمِ

لا يُشغِلُني إلا حُبُّكِ في آتي الأيامْ

أنتِ امرأتي الأولى.

أمي الأولى

رحمي الأولُ

شَغَفي الأولُ

شَبَقي الأوَّلُ

طوق نجاتي في زَمَن الطوفانْ…

-15-

يا سيِّدتي:

يا سيِّدة الشِعْرِ الأُولى

هاتي يَدَكِ اليُمْنَى كي أتخبَّأ فيها..

هاتي يَدَكِ اليُسْرَى..

كي أستوطنَ فيها..

قولي أيَّ عبارة حُبٍّ

حتى تبتدئَ الأعيادْ

قصيدة أحبك جداً

أحبك جداً

وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويـل

وأعرف أنك ست النساء

وليس لدي بديـل

وأعرف أن زمان الحنيـن انتهى

ومات الكلام الجميل

لست النساء ماذا نقول

أحبك جدا…

أحبك جداً وأعرف أني أعيش بمنفى

وأنتِ بمنفى

وبيني وبينك

ريحٌ

وغيمٌ

وبرقٌ

ورعدٌ

وثلجٌ ونـار

وأعرف أن الوصول لعينيك وهمٌ

وأعرف أن الوصول إليك

انتحـار

ويسعدني

أن أمزق نفسي لأجلك أيتها الغالية

ولو خيروني

لكررت حبك للمرة الثانية

أيا من غزلت قميصك من ورقات الشجر

أيا من حميتك بالصبر من قطرات المطر

أحبك جداً

وأعرف أني أسافر في بحر عينيك

دون يقين

وأترك عقلي ورائي وأركض

أركض

أركض خلف جنونـي

أيا امرأة تمسك القلب بين يديها

سألتك بالله لا تتركيني

لا تتركيني

فماذا أكون أنا إذا لم تكوني

أحبك جداً

وجداً وجداً

وأرفض من نــار حبك أن أستقيلا

وهل يستطيع المتيم بالعشق أن يستقيلا…

وما همني

إن خرجت من الحب حيا

وما همني

إن خرجت قتيلا

قصيدة خمس رسائل إلى أمي

صباحُ الخيرِ يا حلوه..

صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوه

مضى عامانِ يا أمّي

على الولدِ الذي أبحر

برحلتهِ الخرافيّه

وخبّأَ في حقائبهِ

صباحَ بلادهِ الأخضر

وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر

وخبّأ في ملابسهِ

طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر

وليلكةً دمشقية..

أنا وحدي..

دخانُ سجائري يضجر

ومنّي مقعدي يضجر

وأحزاني عصافيرٌ..

تفتّشُ -بعدُ- عن بيدر

عرفتُ نساءَ أوروبا..

عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ

عرفتُ حضارةَ التعبِ..

وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر

ولم أعثر..

على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر

وتحملُ في حقيبتها..

إليَّ عرائسَ السكّر

وتكسوني إذا أعرى

وتنشُلني إذا أعثَر

أيا أمي..

أيا أمي..

أنا الولدُ الذي أبحر

ولا زالت بخاطرهِ

تعيشُ عروسةُ السكّر

فكيفَ.. فكيفَ يا أمي

غدوتُ أباً..

ولم أكبر؟

صباحُ الخيرِ من مدريدَ

ما أخبارها الفلّة؟

بها أوصيكِ يا أمّاهُ..

تلكَ الطفلةُ الطفلة

فقد كانت أحبَّ حبيبةٍ لأبي..

يدلّلها كطفلتهِ

ويدعوها إلى فنجانِ قهوتهِ

ويسقيها..

ويطعمها..

ويغمرها برحمتهِ..

.. وماتَ أبي

ولا زالت تعيشُ بحلمِ عودتهِ

وتبحثُ عنهُ في أرجاءِ غرفتهِ

وتسألُ عن عباءتهِ..

وتسألُ عن جريدتهِ..

وتسألُ -حينَ يأتي الصيفُ-

عن فيروزِ عينيه..

لتنثرَ فوقَ كفّيهِ..

دنانيراً منَ الذهبِ..

سلاماتٌ..

سلاماتٌ..

إلى بيتٍ سقانا الحبَّ والرحمة

إلى أزهاركِ البيضاءِ.. فرحةِ “ساحةِ النجمة”

إلى تختي..

إلى كتبي..

إلى أطفالِ حارتنا..

وحيطانٍ ملأناها..

بفوضى من كتابتنا..

إلى قططٍ كسولاتٍ

تنامُ على مشارقنا

وليلكةٍ معرشةٍ

على شبّاكِ جارتنا

مضى عامانِ.. يا أمي

ووجهُ دمشقَ،

عصفورٌ يخربشُ في جوانحنا

يعضُّ على ستائرنا..

وينقرنا..

برفقٍ من أصابعنا..

مضى عامانِ يا أمي

وليلُ دمشقَ

فلُّ دمشقَ

دورُ دمشقَ

تسكنُ في خواطرنا

مآذنها.. تضيءُ على مراكبنا

كأنَّ مآذنَ الأمويِّ..

قد زُرعت بداخلنا..

كأنَّ مشاتلَ التفاحِ..

تعبقُ في ضمائرنا

كأنَّ الضوءَ، والأحجارَ

جاءت كلّها معنا..

أتى أيلولُ يا أماهُ..

وجاء الحزنُ يحملُ لي هداياهُ

ويتركُ عندَ نافذتي

مدامعهُ وشكواهُ

أتى أيلولُ.. أينَ دمشقُ؟

أينَ أبي وعيناهُ

وأينَ حريرُ نظرتهِ؟

وأينَ عبيرُ قهوتهِ؟

سقى الرحمنُ مثواهُ..

وأينَ رحابُ منزلنا الكبيرِ..

وأين نُعماه؟

وأينَ مدارجُ الشمشيرِ..

تضحكُ في زواياهُ

وأينَ طفولتي فيهِ؟

أجرجرُ ذيلَ قطّتهِ

وآكلُ من عريشتهِ

وأقطفُ من بنفشاهُ

دمشقُ، دمشقُ..

يا شعراً

على حدقاتِ أعيننا كتبناهُ

ويا طفلاً جميلاً..

من ضفائره صلبناهُ

جثونا عند ركبتهِ..

وذبنا في محبّتهِ

إلى أن في محبتنا قتلناهُ…

قصيدة لا بد أن أستأذن الوطن

يا صديقتي

في هذه الأيام يا صديقتي..

تخرج من جيوبنا فراشة صيفية تدعى الوطن.

تخرج من شفاهنا عريشة شامية تدعى الوطن.

تخرج من قمصاننا

مآذن.. بلابل ..جداول ..قرنفل.. سفرجل.

عصفورة مائية تدعى الوطن.

أريد أن أراك يا سيدتي..

لكنني أخاف أن أجرح إحساس الوطن..

أريد أن أهتف إليك يا سيدتي

لكنني أخاف أن تسمعني نوافذ الوطن.

أريد أن أمارس الحب على طريقتي

لكنني أخجل من حماقتي

أمام أحزان الوطن.

قصيدة حقائب الدموع والبكاء

إذا أتى الشتاء..

وحركت رياحه ستائري

أحس يا صديقتي

بحاجة إلى البكاء

على ذراعيك..

على دفاتري..

إذا أتى الشتاء

وانقطعت عندلة العنادل

وأصبحت..

كل العصافير بلا منازل

يبتدئ النزيف في قلبي.. وفي أناملي.

كأنما الأمطار في السماء

تهطل يا صديقتي في داخلي..

عندئذ.. يغمرني

شوق طفولي إلى البكاء..

على حرير شعرك الطويل كالسنابل..

كمركب أرهقه العياء

كطائر مهاجر..

يبحث عن نافذة تضاء

يبحث عن سقف له..

في عتمة الجدائل..

إذا أتى الشتاء..

واغتال ما في الحقل من طيوب..

وخبأ النجوم في ردائه الكئيب

يأتي إلى الحزن من مغارة المساء

يأتي كطفل شاحب غريب

مبلل الخدين والرداء..

وأفتح الباب لهذا الزائر الحبيب

أمنحه السرير.. والغطاء

أمنحه.. جميع ما يشاء

من أين جاء الحزن يا صديقتي ؟

وكيف جاء؟

يحمل لي في يده..

زنابقا رائعة الشحوب

يحمل لي ..

حقائب الدموع والبكاء..

قصيدة أنا قطار الحزن

أركب آلاف القطارات

وأمتطي فجيعتي

وأمتطي غيم سجاراتي

حقيبة واحدة.. أحملها

فيها عناوين حبيباتي

من كن، بالأمس، حبيباتي

يمضي قطاري مسرعاً.. مسرعا

يمضغ في طريقه لحم المسافات

يفترس الحقول في طريقه

يلتهم الأشجار في طريقه

يلحس أقدام البحيرات

يسألني مفتش القطار عن تذكرتي

وموقفي آلاتي

وهل هناك موقف آتي؟

فنادق العالم لا تعرفني

ولا عناوين حبيباتي

لا رصيف لي

أقصده.. في كل رحلاتي

أرصفتي جميعها.. هاربة

هاربة.. مني محطاتي

هاربة.. مني محطاتي