أشعار نزار قباني عن الشوق

قصيدة حقائب الدموع والبكاء

إذا أتى الشتاء

وحركت رياحه ستائري

أحس يا صديقتي

بحاجة إلى البكاء

على ذراعيك

على دفاتري

إذا أتى الشتاء

وانقطعت عندلة العنادل

وأصبحت

كل العصافير بلا منازل

يبتدئ النزيف في قلبي .. وفي أناملي

كأنما الأمطار في السماء

تهطل يا صديقتي في داخلي

عندئذ .. يغمرني

شوق طفولي إلى البكاء

على حرير شعرك الطويل كالسنابل

كمركب أرهقه العياء

كطائر مهاجر

يبحث عن نافذة تضاء

يبحث عن سقف له

في عتمة الجدائل

إذا أتى الشتاء

واغتال ما في الحقل من طيوب

وخبأ النجوم في ردائه الكئيب

يأتي إلى الحزن من مغارة المساء

يأتي كطفل شاحب غريب

مبلل الخدين والرداء

وأفتح الباب لهذا الزائر الحبيب

أمنحه السرير .. والغطاء

أمنحه .. جميع ما يشاء

من أين جاء الحزن يا صديقتي

وكيف جاء

يحمل لي في يده

زنابقا رائعة الشحوب

يحمل لي ..

حقائب الدموع والبكاء..

قصيدة شؤون صغيرة

تمر بها أنت .. دون التفات

تساوي لدي حياتي

جميع حياتي

حوادث .. قد لا تثير اهتمامك

أعمر منها قصور

وأحيا عليها شهور

وأغزل منها حكايا كثيرة

وألف سماء

وألف جزيرة

شؤون

شؤونك تلك الصغيرة

فحين تدخن أجثو أمامك

كقطتك الطيبة

وكلي أمان

ألاحق مزهوة معجبة

خيوط الدخان

توزعها في زوايا المكان

دوائر.. دوائر

وترحل في آخر الليل عني

كنجم، كطيب مهاجر

وتتركني يا صديق حياتي

لرائحة التبغ والذكريات

وأبقى أنا

في صقيع انفرادي

وزادي أنا .. كل زادي

حطام السجائر

وصحن .. يضم رماداً

يضم رمادي

وحين أكون مريضة

وتحمل أزهارك الغالية

صديقي.. إلي

وتجعل بين يديك يدي

يعود لي اللون والعافية

وتلتصق الشمس في وجنتي

وأبكي .. وأبكي.. بغير إرادة

وأنت ترد غطائي علي

وتجعل رأسي فوق الوسادة

تمنيت كل التمني

صديقي .. لو أني

أظل .. أظل عليلة

لتسأل عني

لتحمل لي كل يوم

وروداً جميلة

وإن رن في بيتنا الهاتف

إليه أطير

أنا .. يا صديقي الأثير

بفرحة طفل صغير

بشوق سنونوة شاردة

وأحتضن الآلة الجامدة

وأعصر أسلاكها الباردة

وأنتظر الصوت

صوتك يهمي علي

دفيئاً .. مليئاً .. قوي

كصوت نبي

كصوت وارتطام النجوم

كصوت سقوط الحلي

وأبكي .. وأبكي

لأنك فكرت في

لأنك من شرفات الغيوب

هتفت إلي

ويوم أجيء إليك

لكي أستعير كتاب

لأزعم أني أتيت لكي أستعير كتاب

تمد أصابعك المتعبة

إلى المكتبة

وأبقى أنا .. في ضباب الضباب

كأني سؤال بغير جواب

أحدق فيك وفي المكتبة

كما تفعل القطة الطيبة

تُراك اكتشفت

تُراك عرفت

بأني جئت لغير الكتاب

وأني لست سوى كاذبة

.. وأمضى سريعاً إلى مخدعي

أضم الكتاب إلى أضلعي

كأني حملت الوجود معي

وأشعل ضوئي .. وأسدل حولي الستور

وأنبش بين السطور .. وخلف السطور

وأعدو وراء الفواصل .. أعدو

وراء نقاط تدور

ورأسي يدور

كأني عصفورة جائعة

تفتش عن فضلات البذور

لعلك .. يا .. يا صديقي الأثير

تركت بإحدى الزوايا

عبارة حب قصيرة

جنينة شوق صغيرة

لعلك بين الصحائف خبأت شيا

سلاماً صغيراً .. يعيد السلام إليا

وحين نكون معاً في الطريق

وتأخذ من غير قصد ذراعي

أحس أنا يا صديق

بشيء عميق

بشيء يشابه طعم الحريق

على مرفقي

وأرفع كفي نحو السماء

لتجعل دربي بغير انتهاء

وأبكي .. وأبكي بغير انقطاع

لكي يستمر ضياعي

وحين أعود مساء إلى غرفتي

وأنزع عن كتفي الرداء

أحس وما أنت في غرفتي

بأن يديك

تلفان في رحمة مرفقي

وأبقي لأعبد يا مرهقي

مكان أصابعك الدافئات

على كم فستاني الأزرق

وأبكي .. وأبكي .. بغير انقطاع

كأن ذراعي ليست ذراعي

قصيدة مع جريدة

أخرجَ من معطفهِ الجريده

وعلبةَ الثقابِ

ودون أن يلاحظَ اضطرابي

ودونما اهتمامِ

تناولَ السكَّرَ من أمامي

ذوَّب في الفنجانِ قطعتين

ذوَّبني.. ذوَّب قطعتين

وبعدَ لحظتين

ودونَ أن يراني

ويعرفَ الشوقَ الذي اعتراني

تناولَ المعطفَ من أمامي

وغابَ في الزحامِ

مخلَّفاً وراءه.. الجريدة

وحيدةً

مثلي أنا.. وحيدة

قصيدة المَايوه الأزرق

مرحباً .. ماردةَ البحر .. على الأشواق طُوفي

غَمِّسي في الماءِ ساقَيْنِ .. كتسبيح السُيُوفِ

وانْبُضي حَرْفاً من النار على ضِلْع الرصيفِ

واشْرُدي أُغْنِيَةً في الرمل .. شَقْراءَ الحُرُوفِ

دَرْبُكِ الأحداقُ .. فانْسَابي على الشوق المُخيفِ

بَدَناً كالشَمْعة البيضاء .. عاجيَّ الرفيفِ

زَنبقيَّاً، رُبَّما كانَ، على وَرْدٍ خفيفِ

ونُهِيْداً .. راعِشَ المنقارِ، كالثلجِ النَدِيفِ

تلبسين المغربَ الشاحبَ في بُرْدٍ شفيفِ

أزْرَقٍ .. مُغْرَوْرِقِ الخيط .. سَمَاويِّ الحفيفِ

أنتِ .. يا أنتِ .. لقد وَشَّحْتِ بالدفءِ خريفي

قصيدة يوميات رجل مهزوم

لم يحدث أبداً

أن أحببت بهذا العمق

لم يحدث .. لم يحدث أبداً

أني سافرت مع امرأة

لبلاد الشوق

وضربت شواطئ نهديها

كالرعد الغاضب، أو كالبرق

فأنا في الماضي لم أعشق

بل كنت أمثل دور العشق

لم يحدث أبداً

أن أوصلني حب امرأة حتى الشنق

لم أعرف قبلك واحدة

غلبتني، أخذت أسلحتي

هزمتني .. داخل مملكتي

نزعت عن وجهي أقنعتي

لم يحدث أبدا، سيدتي

أن ذقت النا ، وذقت الحرق

كوني واثقة.. سيدتي

سيحبك .. آلاف غيري

وستستلمين بريد الشوق

لكنك .. لن تجدي بعدي

رجلا يهواك بهذا الصدق

لن تجدي أبداً

.. لا في الغرب

ولا في الشرق

قصيدة لا تحِبّيني

هذا الهوى

ما عادَ يُغريني

فَلْتستريحي.. ولْترُيحيني

إنْ كان حبّكِ.. في تقلّبهِ

ما قد رأيتُ

فلا تُحبّيني

حُبّي

هو الدنيا بأجمعها

أما هواكِ.. فليس يعنيني

أحزانيَ الصغْرى.. تعانقني

وتزورني

إنْ لم تزوريني

ما همّني

ما تشعرينَ به

إن افتكاري فيكِ يكفيني

فالحبّ

وهمٌ في خواطرنا

كالعطر، في بال البساتينِ

عيناكِ

من حُزْني خلقتُهُما

ما أنتِ

ما عيناكِ من دُوني

فمُكِ الصغيرُ

أدرتُهُ بيدي

وزرعتُهُ أزهارَ ليمونِ

حتى جمالُكِ

ليس يُذْهلني

إن غابَ من حينٍ إلى حينِ

فالشوقُ يفتحُ ألفَ نافذةٍ

خضراءَ

عن عينيكِ تُغنْيني

لا فرقَ عندي. يا معذّبتي

أحببتِني

أم لم تُحبّيني

أنتِ استريحي.. من هوايَ أنا

لكنْ سألتُكِ

لا تُريحيني