أفضل قصائد الشاعر بدر شاكر السياب

الشاعر العراقي بدر شاكر السياب هو من أشهر الشعراء العرب في الوطن العربي في القرن العشرين، وهو أحد مؤسسي الشعر الحر في الأدب العربي، ولد في محافظة البصرة جنوب العراق في عام 1926، وقد توفي في عام 1964 ، فقد كان الشاعر بدر شاكر السياب ضئيل الحجم، ناحل الجسم، قصير القامة، وذو ملابس فضفاضة، عرف عنه حب المطالعة والبحث في كافة المواضيع، واستطاع أن يقدم خلال حياته مجموعة من أجمل القصائد، فقد صبغ أشعاره بحياته المعاشية والاجتماعية والفكرية، حتى وجد في أشعاره معاني الحنان والرقة والعاطفة، وأشعار أخرى ظهر فيها الحزن والنبضات الثورية والوداع وعالم منهار قد عاش فيه ، ومن ثم فإننا نقدم في هذا المقال أفضل قصائد الشاعر بدر شاكر السياب .



قصيدة إلى العراق الثائر

عملاء قاسم يطلقون النار آه على الربيع

سيذوب ما جمعوه من مال حرام كالجليد

ليعود ماء منه تطفح كل ساقية يعيد

ألق الحياة إلى الغصون اليابسات فتستعيد

ما لص منها في الشتاء القاسمي فلا يضيع

يا للعراق

يا للعراق أكاد ألمح عبر زاخرة البحار

في كل منعطف و درب أو طريق أو زقاق

عبر الموانئ و الدروب

فيه الوجوه الضاحكات تقول قد هرب التتار

و الله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار

طلع النهار فلا غروب

يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب

أخذت من العملاء ثأرك كف شعبي حين ثار

فهوى إلى سقر عدو الشعب فانطلقت قلوب

كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود

كانت على مهل تذوب

كانت إذا مال الغروب

رفعت إلى الله الدعاء ألا أغثنا من ثمود

من ذلك المجنون يعشق كل أحمر فالدماء

تجري و ألسنة اللهيب تمد يعجبه الدمار

أحرقه بالنيران تهبط كالجحيم من السماء

و اصرعه صرعا بالرّصاص فإنّه شبح الوباء

**

هرع الطبيب إليّ آه لعلّه عرف الدواء

للداء في جسدي فجاء

هرع الطبيب إليّ و هو يقول ماذا في العراق

الجيش ثار و مات قاسم أيّ بشرى بالشّفاء

و لكدت من فرحي أقوم أسير أعدو دون داء

مرحى له أي انطلاق

مرحى لجيش الأمة العربية انتزع الوثاق

يا أخوتي بالله بالدم بالعروبة بالرجاء

هبّوا فقد صرع الطغاة و بدّد الليل الضياء

فلتحرسوها ثورة عربيّة صعق الرّفاق

منها وخر الظالمون

لأن تموز استفاق

من بعد ما سرق العميل سناه فانبعث العراق


قصيدة ربيع الجزائر

سلاما بلاد اللظى و الخراب

و مأوى اليتامى و أرض القبور

أتى الغيث و انحلّ عقد السحاب

فروى ثرى جائعا للبذور

و ذاب الجناح الحديد

على حمرة الفجر تغسل في كل ركن بقايا شهيد

و تبحث عن ظامئات الجذور

و ما عاد صبحك نارا تقعقع غضبي و تزرع ليلا

و أشلاء قتلى

و تنفث قابيل في كلّ نار يسفّ الصديد

و أصبحت في هدأة تسمعين نافورة من هتاف

لديك يبشّر أن الدّجى قد تولى

و صبحت تستقبلين الصباح المطلاّ

بتكبيرة من ألوف المآذن كانت تخاف

فتأوي إلى عاريات الجبال

تبرقع أصداءها بالرمال

بماذا ستستقبلين الربيع ؟

ببقيا من الأعظم البالية

لها شعلة رشّت الدالية

تعير العناقيد لون النجيع

وفي جانبي كل درب حزين

عيون تحدّق تحت الثرى

تحدق في عورة العاجزين

لو تستطيع الكلام

لصبّت على الظالمين

حميما من اللعنات من العار من كل غيظ دفين

ربيعك يمضغ قيح السلام

بيوتك تبقى طوال المساء

مفتّحة فيك أبوابها

لعل المجاهد بعد انطفاء اللهيب و بعد النوى و العناء

يعود إلى الدار يدفن تحت الغطاء

جراحا يفرّ إليه الصغار ترفرف أثوابها

يصيحون بابا فيفطر قلب المساء

و ماذا حملت لنا من هديّة

غدا ضاحكا أطلعته الدماء

و كم دارة في أقاصي الدروب القصيّة

مفتحة الباب تقرعه الريح في آخر الليل قرعا

فتخرج أو الصغار

و مصباحها في يد أرعش الوجد منها

يرود الدجى ما أنار

سوى الدرب قفر المدى و هي تصغى و ترهف سمعا

و ما تحمل الريح إلا نباح الكلاب البعيد

فتخفت مصباحها من جديد

و لما استرحنا بكينا الرفاق

هماس لأنبييس عبر القرون

وها أنت تدمع فيك العيون

و تبكين قتلاك

نامت وغى فاستفاق

بك الحزن عاد اليتامى يتامى

ردى عاد ما ظنّ يوما فراق

سلاما بلاد الثكالى بلاد الأيامى

سلاما

سلاما


قصيدة ابن الشهيد

و تراجع الطوفان لملم كل أذيال المياه

و تكشف قمم التلال سفوحها و قرى السهول

أكواخها و بيوتها خرب تناثر في فلاه

عركت نيوب الماء كل سقوفها و مشى الذبول

فيما يحيط بهن من شجر فآه

آه على بلدي عراقي : أثمر الدم في الحقول

حسكا و خلف جرحة التتري ندبا في ثراه

يا للقبور كأن عاليها سفلا و غار إلى الظلام

مثل البذور تنام ظلم الثمار و لا تفيق

يتنفس الأحياء فيها كل وسوسة الرغام

حتى يموتوا في دجاها مثلما اختنق الغريق

جثث هنا ودم هناك

وفي بيوت النمل مد من الجفون

سقف يقرمده النجيع و في الزوايا

صفر العظام من الحنايا

ماذا تخلف في العراق سوى الكآبه و الجنون

أرأيت أرملة الشهيد

الوزج مد عليه من ترب لحافا ثم نام

متمددا بأشد ما تجد العظام

من فسحة سكنت يداه على الأضالع

و العيون

تغفو إلى أبد الإله إلى القيامة في سلام

رمت الرداء العسكري و نشرته على الوصيد

لثمته فانتفض القماش يرد برد الموت

برد المظلمات من القبور

يا فكرها عجبا ثقبت بنارك الأبد البعيد

يا فكر شاعرة يفتش عن قواف للقصيد

ماذا وجدت وراء أمسي و عبر يومّك من دهور

الثأر يصرخ كل عرق كل باب

في الدار يا لفم تفتّح كالجحيم من الصخور

من كل ردن في الرداء من النوافذ و الستور

من عيني ابنك يا شهيد تسائلان بلا جواب

عنك الأسرة و الدروب و تسألان عن المصير

مذ ألبسته الأم ثوبك في معاركك الأثير

و يداه في الردنين ضائعتان و الصدر الصغير

في صدرك الأبوي عاصفة تغلف بالسحاب

ورنا إلى المرآة

أبصرت فيه شخصك في الثياب

أبني كان أبوك نبعا من لهيب من حديد

سوراً من الدم و الرعود

ورماه بالأجل العميل فخر واها كالشهاب

لكن لمحا منه شع وفض اختام الحدود

و أضاء وجه الفوضوي ينز بالدم و الصديد

و كأن في أفق العروبة منه خيطا من رغاب

و تنفس الغد في اليتيم و مد في عينيه شمسه

فرأى القبور يهب موتاهن فوجا بعد فوج

أكفانها هرئت

و لكن الذي فيها يضم إليه أمسه

ويصيح يا للثار يا للثار

يصدى كل فج

و ترنّ أقيبة المساجد و المآذن بالنداء

و ينام طفلك و هو يحلم بالمقابر و الدماء


قصيدة لإني غريب

لأنّي غريب

لأنّ العراق الحبيب

بعيد و أني هنا في اشتياق

إليه إليها أنادي : عراق

فيرجع لي من ندائي نحيب

تفجر عنه الصدى

أحسّ بأني عبرت المدى

إلى عالم من ردى لا يجيب

ندائي

و إمّا هززت الغصون

فما يتساقط غير الردى

حجار

حجار و ما من ثمار

و حتى العيون

حجار و حتى الهواء الرطيب

حجار يندّيه بعض الدم

حجار ندائي و صخر فمي

و رجلاي ريح تجوب القفار


قصيدة سفر أيوب

لك الحمد مهما استطال البلاء

ومهما استبدّ الألم

لك الحمد، إن الرزايا عطاء

وإن المصيبات بعض الكرم

ألم تُعطني أنت هذا الظلام

وأعطيتني أنت هذا السّحر؟

فهل تشكر الأرض قطر المطر

وتغضب إن لم يجدها الغمام؟

*****

شهور طوال وهذي الجراح

تمزّق جنبي مثل المدى

ولا يهدأ الداء عند الصباح

ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى

ولكنّ أيّوب إن صاح صاح:

لك الحمد، إن الرزايا ندى

وإنّ الجراح هدايا الحبيب

أضمّ إلى الصّدر باقاتها

هداياك في خافقي لا تغيب

هداياك مقبولة. هاتها

*****

أشد جراحي وأهتف

بالعائدين:

ألا فانظروا واحسدوني

فهذى هدايا حبيبي

جميل هو السّهدُ أرعى سما

بعينيّ حتى تغيب النجوم

ويلمس شبّاك داري سناك

جميل هو الليل أصداء يوم

وأبواق سيارة من بعيد

وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد

أساطير آبائها للوليد

وغابات ليل السُّهاد الغيوم

تحجّبُ وجه السماء

وتجلوه تحت القمر

وإن صاح أيوب كان النداء:

لك الحمد يا رامياً بالقدر

ويا كاتباً، بعد ذاك، الشفاء


أنشودة المطر

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

.أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهر

يرجه المجداف وهنا ساعة السحر

كأنما تنبض في غوريهما النجوم

وتغرقان في ضباب من أسى شفيف

كالبحر سرح اليدين فوقه المساء

دفء الشتاء فيه و ارتعاشة الخريف

و الموت و الميلاد و الظلام و الضياء

فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء

أنشوة الطفل إذا خاف من القمر

كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم

وقطرة فقطرة تذوب في المطر

وكركر الأطفال في عرائش الكروم

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

أنشودة المطر

مطر

مطر

مطر

تثاءبي المساء و الغيوم ما تزال

.تسح ما تسح من دموعها الثقال

:كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام

بأن أمه – التي أفاق منذ عام

فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال

قالوا له : ” بعد غد تعود” –

لابد أن تعود

و إن تهامس الرفاق أنها هناك

في جانب التل تنام نومة اللحود

تسف من ترابها و تشربي المطر

كأن صيادا حزينا يجمع الشباك

ويلعن المياه و القدر

و ينثر الغناء حيث يأفل القمر

المطر

المطر

أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟

و كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟

بلا انتهاء_ كالدم المراق، كالجياع

كالحب كالأطفال كالموتى – هو المطر

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروق

سواحل العراق بالنجوم و المحار

كأنها تهم بالبروق

.فيسحب الليل عليها من دم دثار

اصح بالخيلج : ” يا خليج

“يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردى

فيرجع الصدى

كأنه النشيج

يا خليج”

” يا واهب المحار و الردى

أكاد أسمع العراق يذخر الرعود

و يخزن البروق في السهول و الجبال

حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال

لم تترك الرياح من ثمود

.في الواد من اثر

أكاد اسمع النخيل يشرب المطر

و اسمع القرى تئن ، و المهاجرين

يصارعون بالمجاذيف و بالقلوع

عواصف الخليج و الرعود ، منشدين

مطر”

مطر

مطر

وفي العراق جوع

وينثر الغلال فيه موسم الحصاد

لتشبع الغربان و الجراد

و تطحن الشوان و الحجر

رحى تدور في الحقول … حولها بشر

مطر

مطر

مطر

وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع

ثم اعتللنا – خوف أن نلام – بالمطر

مطر

مطر

و منذ أن كنا صغارا، كانت السماء

تغيم في الشتاء

،و يهطل المطر

وكل عام – حين يعشب الثرى- نجوع

ما مر عام و العراق ليس فيه جوع

مطر

مطر

مطر

في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنة الزهر

و كل دمعة من الجياع و العراة

وكل قطرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

أو حلمة توردت على ف الوليد

في عالم الغد الفتي واهب الحياة

مطر

مطر

مطر

” سيعشب العراق بالمطر