تفسير ” خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين “

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأعراف: 199-200]


فضل الآيات:


عن ابن أبي حاتم قال: «لما أنزل اللّه عزَّ وجلَّ على نبيه محمد صل اللّه عليه وسلم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال

رسول اللّه

صل اللّه عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن اللّه أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك»


الهدي القرآني في الآيات:


يقول ابن جرير: أمر اللّه نبيه صل اللّه عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمراً لنبيه صل اللّه عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق اللّه ولا بالصفح عمن كفر باللّه وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب.

وقال قتادة في الآية: هذه أخلاق أمر اللّه بها نبيه صل اللّه عليه وسلم ودله عليها. وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى؛ فسكبه في بيتين فيهما جناس فقال:

خذ العـــفو وأمر بعرف كمـــا ** أمرت وأعرض عن الجاهــــلين

ولِنْ في الكلام لكل الأنام ** فمستحسن من ذوي الجاهلين

وقال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وإما مسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96] ، وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]

وقال في هذه السورة الكريمة أيضاً: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، فهذه الآيات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة لا رابع لهن، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف بالتي هي أحسن، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى، ولهذا قال: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان، فإنه لا يكفه عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.


تفسير الآيات:

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}:

قال

ابن عباس

: يعني خذ ما عفا لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه، وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنفق الفضل، وقال عبد الرحمن بن أسلم: أمره اللّه بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم، واختار هذا القول ابن جرير، وقال غير واحد من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس.

وفي صحيح البخاري عن عبد اللّه بن الزبير قال: إنما أنزل {خُذِ الْعَفْوَ} من أخلاق الناس. وفي رواية عن أبي الزبير: { خذ العفو} قال: من أخلاق الناس واللّه لآخذنه منهم ما صحبتهم، وقال البخاري قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} العرف: المعروف “”قول

البخاري

العرف: المعروف وعن عبد اللّه بن نافع: أن سالم بن عبد اللّه بن عمر مرّ على عير لأهل الشام وفيها جرس فقال: إن هذا منهي عنه، فقالوا: نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.


{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ}:

قال ابن جرير وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}

يقول: فاستجر باللّه من نزغه،

{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

سميع لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.

وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صل اللّه عليه وسلم، فغضب أحدهما فقال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم» الحديث. وأصل النزغ: الفساد إما بالغضب أو غيره، قال اللّه تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، والعياذ: الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر، وأما الملاذ ففي طلب الخير.