سبب نزول ” لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين “

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: 25-27]


سبب نزول الآية:


أخرج البيهقي: أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة؟ وكانوا اثني عشر ألفاً، فشق ذلك على رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ…} الآية، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم، ثم أنزل اللّه نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قل الجمع {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].


تفسير الآيات:



{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}:

يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وإن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، تعالى:

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ}:

أي طمأنينته وثباته على رسوله

{وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}:

أي الذين معه

{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}:

وهم

الملائكة

، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن عبد الرحمن مولى ابن برثن، حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال: فلما التقينا نحن وأصحاب رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حلب شاة، قال: لما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم، قال: فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا، فكانت إياها.

وقال

ابن مسعود

رضي اللّه عنه: كنت مع رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل اللّه عليهم السكينة، قال: ورسول اللّه صل اللّه عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فحادت بغلته، فمال عن السرج، فقلت: ارتفع رفعك اللّه، قال: «ناولني كفاً من التراب» فناولته قال: فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم تراباً قال: «أين المهاجرون والأنصار؟» قلت: هم هناك، قال: «اهتف بهم» فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم [رواه الحافظ البيهقي والإمام أحمد في مسنده بنحوه].

وعن شيبة بن عثمان قال: رأيت رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله، قال: فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان، فقلت: ابن عمه ولن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم وقال: «يا شيبة يا شيبة ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان» قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري، فقال: «يا شيبة قاتل الكفار» [أخرجه الحافظ البيهقي].

قال محمد بن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال: إنا لمع رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة، وفي صحيح مسلم قال رسول اللّه صل اللّه عليه وسلم: «نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم»، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}


{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:

قد تاب اللّه على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه، وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء، لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة “”مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ** في الناس كلهم بمثل محمد

فكـــأنه ليث على أشبـــــاله ** وسط المباءة خادر في مرصد